خلال تصفحي اليومي لمواقع التواصل الاجتماعي، لفت انتباهي حلقة تبث على قناة الجزائر 1 أخذت ما يقارب مليون مشاهدة في ظرف أقل من يومين تقدمها الفنانة الشابة المدعوة وردة، لم أنظر لمحتوى الحلقة بقدر ما شدني الرقم القياسي لعدد المشاهدات، هذا الأمر جعلني أتساءل، خصوصًا أنني سمعت عددًا من الانتقادات التي قدمت للفنانة على مدار سنوات من طرف الجمهور الجزائري، لن أخوض في تلك الانتقادات ولن أتعرض لنقد هذه الشابة، فلو خُضنا في نقدها، فأولى أن نهاجم المؤسسة التلفزيونية التي أعطت فضاء يمارس فيه المحتوى الرديء، وهمشت أصحاب الكفاءة والإنتاج الدرامي القيم. ثم بعد ذلك نلقي اللوم على الطرف الأخير الذي يعرض لنا سفاهته التي لا تسيء لشخصه فقط، وإنما للمجتمع ككل، وأيضًا كيف نلوم المسمار وننسى المطرقة المسببة في هذه الضجة التي تحصل.

تذكرت ما حصل في التسعينيات من القرن الماضي، والتي اشتهرت بـ العولمة وانتشار الوسائل الجديدة للإعلام والاتصالات، ومن بين الباحثين الذين انتقدوا هذه الظاهرة الباحث الاجتماعي الكبير بيار بورديو. فقد شن بورديو حربًا واسعة النطاق في نقده لوسائل الإعلام والميديا الجديدة في فرنسا، وذلك بسبب الدور السلبي الذي تلعبه هذه الأخيرة في التلاعب بعقول الجماهير من خلال سلسلة من الرسائل والصناعات التي تسيء لعقل الفرد وكيانه أولًا، وقيم المجتمع وثقافته ثانيًا. ولقد نشر بورديو كتابا بعنوان "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول"، وهو كتاب يعد من أهم المراجع في هذا المجال.رغم أن بيار بورديو كان ينتقد العولمة التقنية من خلال عوالم الميديا وإجراءاتها لما رأى فيها عواقب جسيمة على المتلقي أكثر من منافعها، إلا أن الكثير اعتبروا أن طرحه غير منطقي وغير موضوعي، كون هذه الأخيرة تتماشى مع التغيرات الطارئة والحاجات الضرورية التي تتطلب توفر هذه التقنيات الحديثة. ومع ذلك، فإن رحيل بيار بورديو في 23 يناير (كانون الثاني) 2002، أثار ردود أفعال كثيرة في فرنسا وفي جميع أنحاء العالم. ويظهر هذا من خلال التعبير الذي كتبته مجلة اليسار الجديدة: "يموت بيار بورديو ويفقد العالم أكثر العلماء شهرة، كما فقد اليسار الأوروبي أكثر الأصوات المؤثرة على حركته والمعبرة عنه خلال العقود الأخيرة". ولذلك، فإن أفكار بورديو تحمل الكثير من الأهمية حتى اليوم، وتحتاج إلى البحث والتطوير المستمر من قبل العلماء والمفكرين في مجال الاجتماع والإعلام.

لكن بعد 10 سنوات تقريبًا أو أكثر من وفاة باحث الاجتماع الكبير، أما زالت هذه الآلية التي تحدث عنها قائمة؟ أم أن  وسائل الإعلام الى اليوم مزالت  تتلاعب بعقول الجماهير؟

عندما تتصفح صفحات من كتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لوبون الذي أصبح مرجعًا استخدمه الحكّام وقادة الحركات الجماهيرية لفهم نفسيات الجماهير من أجل توجيهها نحو الهدف الذي يريده الزعيم، تدرك بأنه يوجد تضارب بين أفكار الكاتبين، ربما هذا الأمر راجع إلى مرجعيتهم الفكرية والنظرية، كون الأول عالم اجتماع تتشكل أفكاره في شكل بنية متكاملة الأجزاء، وكل جزء من تلك الجماعة له وظيفة ودور في البناء متكامل، أما الثاني عالم النفس يعتبر نفسية الفرد وظروفه هي المرجع الأول في بناء الأحداث وتأثيرها فيه، كما نقل لنا من خلال كتابه الطريقة التي تفكر بها الجماهير، والطرق التي تتأثر بها وتتحرك بناءًا عليها. عرضي لكتاب سيكولوجيا الجماهير لم يكن محل الصدفة ولم يأت ذريعة لما تفعله وسائل الإعلام في نقل مغالطات للجمهور لتسيء لعقله وفكره انطلاقًا من سيكولوجيته ودوافعه بإعتبار أن ما تبثه هو نفسه ما يريده المتلقي لإشباع رغباته. لكن هذا الطرح جاء محل استفسار وحيرة.  فعندما نجد كبار الحكام يصرفون أموالًا طائلة من أجل إيجاد إستراتيجية نافعة لتلاعب بمشاعر الشعوب وكسب عطفهم اتجاه بعض القضايا نفهم أن آلية التلاعب بالعقول لم تعد تجدي نفعًا، لأنه حلت محلها آلية التلاعب بمشاعر الجمهور ونفسيته، وعندما نجد مثلًا فردًا عاقلًا يفكر بمنطقية ولكن يتجه وفق مسار ما تبثه وسائل الإعلام. أو عندما نجد شخصًا بلغ من العلم مكانة لا بأس بها تجعله يوازن بين الإيجابيات والسلبيات، ومع ذلك يعبر عما شاهده لكن دون وجود أي تعليق أو نقد حول ما هو حاصل في الواقع وما ألفته وسائل الإعلام. هل هذا تلاعب بالعقول أم بالمشاعر؟ ففي وسط هذا التدفق الهائل للمعلومات وفي ظل ما تتيحه تكنولوجيا الاتصال والإعلام من إنتاج للمحتوى الآني والتفاعلي؟ هل أصبحت المعلومة التي يتم الوصول إليها اليوم بسرعة وسهولة هي وسيلة يتم التلاعب بها من طرف المهيمن من أجل تحقيقه للأهداف التي يسعى للوصول إليها؟ لا أظن ذلك وحتى ولو اعتبرنا أنه قد جرى استخدامها كأداة لتلاعب بعقل المتلقي، فتأكد أنها لا تحيا طويلًا وتفقد فعاليتها في وسط العالم الافتراضي الذي يشكك في كل ما يقدم من طرف عدد من الأفكار والرؤى من شرائح مختلفة في المجتمع.

من وجهة نظري المتواضعة، يمكننا القول بأن آلية التلاعب بعقول الجماهير قد انخفضت فعاليتها في الفترة الأخيرة. ويمكن تحليل ذلك من خلال عدة مؤشرات، أبرزها عدم قدرة وسائل الإعلام على جذب الجمهور والحفاظ عليه، والاستناد بدلاً من ذلك إلى مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للمعلومات والأخبار.ومن الملاحظ أن بعض المواضيع والأفكار التي لاقت تفاعلاً كبيراً من الجمهور تم جمعها من مواقع التواصل الاجتماعي وتم تناولها في نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية. ولكن على الرغم من ذلك، فإن المشاهد لا يخلو من المسؤولية في إنجاح الحصص الرديئة من خلال عدد المشاهدات المرتفعة.ومن الجدير بالذكر أن بعض تلك الحصص الرديئة لا تستخدم آلية للتلاعب بالعقول، وإنما تستخدم عبارات وزوايا التي تثير الفضول والمشاعر للمتلقي لاكتشاف ما يجري في تلك اللحظة وفقط. وهذا يوضح أن الإنتاج الضخم والإستراتيجيات القوية التي تستخدمها وسائل الإعلام يمكن أن تنتج محتوى جذاب للمشاهد، دون الحاجة إلى التلاعب بعقوله.

ويمكننا الختام بالقول بأن" إنتاج المحتوى الرديء من أجل التلاعب بمشاعر الجماهير هو إساءة للعقول والأمة بأكملها".