يشهد العالم المعاصر تحولا معرفيا وثقافيا في أنماط القراءة والتلقي، تغذّيه التحولات التقنية المتسارعة وصعود الخوارزميات التنبؤية التي أصبحت تتغلغل في تفاصيل سلوك القارئ وتوجّه ذائقته المعرفية والثقافية. لم يعد فعل القراءة اليوم ممارسة حرة تنبع من إرادة ذاتية، بل بات يتم ضمن منظومة رقمية متشابكة تعيد تشكيل الخيارات المعرفية باستمرار. وتجسّد هذه الظاهرة ما يُعرف بـ«الثقافة الخوارزمية» (Algorithmic Culture) التي تناولها عدد من الباحثين المعاصرين مثل Beer (2017) وStriphas (2020)، مشيرين إلى أن الخوارزميات تجاوزت كونها أدوات تقنية إلى أن أصبحت فاعلًا ثقافيًا يُعيد صياغة علاقة الإنسان بالمعرفة والمعنى.
الخوارزمية كفاعل ثقافي.
لم تعد الخوارزميات أنظمة رياضية جامدة تنفّذ أوامر برمجية محددة، بل تحوّلت إلى كيانات رمزية تمتلك سلطة ثقافية فاعلة في تشكيل الرغبات وتوجيه الاهتمامات. فهي تراقب سلوك القارئ وتعيد إنتاج تجربته المعرفية من خلال تحليل تفاعلاته الرقمية، لتبني خرائط دقيقة لميوله واتجاهاته، وتقترح عليه محتوى يتماهى مع تفضيلاته السابقة في دائرة مغلقة من “التغذية الراجعة الذاتية”. ويعرف هذا النمط من القراءة في الأدبيات الإعلامية بمفهوم “القراءة المفلترة” (Filtered Reading)، وهو قريب من فكرة “فقاعة الترشيح” (Filter Bubble) التي صاغها Pariser (2011)، حيث يجد القارئ نفسه محصورًا داخل فضاء معرفي ضيق يتلقى فيه ما يعزّز قناعاته ويؤكد تحيزاته، دون أن تتاح له فرصة الانفتاح على زوايا النظر المختلفة أو الأفكار المخالفة. بهذا المعنى، يتحوّل القارئ من فاعلٍ حر في إنتاج المعنى إلى مفعول به داخل منظومة خوارزمية تتحكم في تدفق المعرفة ومساراتها. وتتراجع بذلك إنسانية الفعل القرائي لصالح منطق تقني يقوم على التنبؤ والضبط، حيث تختزل التجربة الثقافية في معادلات احتمالية تسعى إلى إدارة الانتباه أكثر مما تحفز على التفكير النقدي.
القارئ تحت مجهر الذكاء الاصطناعي.
في البيئة الرقمية المعاصرة، لم تعد المنصات تكتفي بقراءة النصوص، بل باتت تراقب القارئ نفسه: زمن قراءته، ونقاط توقفه، وأنماط تفاعله. ووفق دراسة Wang وآخرين (2023)، تعتمد أنظمة التوصية المدعومة بالذكاء الاصطناعي على تحليل الأنماط السلوكية الدقيقة لتخصيص المحتوى بصورة مستمرة، مما يؤدي إلى تكوين “عوالم معرفية مغلقة” تمنح القارئ شعورا مؤقتا بالراحة، لكنها في الوقت ذاته تقيده ضمن حدود التكرار والاعتياد. بهذا المعنى، يغدو القارئ كائنا “مبرمجا ثقافيا” يتلقى محتواه كما يتلقى قهوته من آلة ذكية: الطعم نفسه، والمقادير ذاتها، دون مغامرة أو اكتشاف. غير أن جوهر القراءة الحقيقي يكمن في المغامرة الفكرية والانفتاح على المجهول، في اقتحام النصوص التي لا تشبهنا وتحد يقيننا. فالقيمة الأصيلة للقراءة لا تقاس بدرجة الانسجام، بل بقدرتها على إحداث التباين الذي يوسع الأفق ويغذي ملكة التأمل.
سيلا 2025: القراءة بين المادي والرقمي.
يمثّل معرض الجزائر الدولي للكتاب (سيلا 2025) تجسيدًا حيًّا للتقاطع بين العالمين المادي والرقمي؛ فالقارئ هناك يتنقّل بين أرفف الكتب الورقية وشاشات الأجهزة اللوحية، بينما تتولى التطبيقات الذكية توجيهه نحو أجنحته المفضلة وفق اهتماماته المسجَّلة. ومع ذلك، ووسط كل هذا الزخم سنجد طفل يشتري أول رواية في حياته، ورجل يكتشف ذاته المفقودة في كتابٍ قديم.
رغم تغول التقنية، تظل القراءة فعلا إنسانيا أصيلا متجذرا في العاطفة والذاكرة والوعي أكثر مما هو خاضع لمنطق الخوارزمية. ففي عالم السرعة الرقمية، تغدو القراءة الحرة شكلاً من المقاومة الثقافية؛ ففتح كتاب ورقي وسط فيض الشاشات هو إعلان رمزي عن التأنّي والتأمل في وجه ثقافة التسرّع. وقد نبه Carr (2010) إلى أن الإفراط في التفاعل الرقمي يضعف قدرة الإنسان على التركيز والتفكير العميق، مما يجعل القراءة البطيئة والواعية وسيلة لاستعادة عمق الوعي في زمن السطحية المعرفية.
من يقود فعل القراءة؟
رغم ما تمتلكه الخوارزميات من قدرة على “معرفة” القارئ عبر تتبّع بياناته وسلوكياته، فإنها تظل عاجزة عن “فهمه” ككائن يختزن الوجدان والدهشة والقدرة على التأويل. فقيادة فعل القراءة لا تكمن في اقتراح الكتب، بل في امتلاك الوعي النقدي الذي يمكن الإنسان من التمييز بين ما يقرأ وما يهمل. القارئ القائد هو من يختار بعقله الحر لا بما تفرضه المنصات أو تمليه النزعة الجماعية، بل بما يستجيب لفضوله وحاجته المعرفية الأصيلة.
ومع تصاعد هيمنة الخوارزميات في توجيه الذوق الثقافي وإعادة تشكيل أنماط التلقي، تغدو القراءة فعل تحرر ثقافي يستعيد به الإنسان دوره بوصفه فاعلا واعيا لا متلقيا مبرمجا. لقد أصبحت الخوارزميات تعرف عن الإنسان الكثير، لكنها تجهل ما لا يمكن برمجته: شعوره وتأمّله وحلمه.
إن مستقبل القراءة في عصر الذكاء الاصطناعي لن يقاس بمدى تطور التقنية، بل بقدرة الإنسان على استعادة وعيه النقدي وتأكيد حريته في الاختيار، وإدراكه أن إنسانيته الحقيقية تكمن في ما يعجز الذكاء الاصطناعي عن محاكاته.