لا يستطيع الإنسان أن يستغني عن شيئين مهما كلفه الأمر ذلك، فهما مرتبطان بكيانه وحقيقة وجوده في الحياة، ألا وهما العقل والعاطفة، الأول يظهر في صلابة فكره في مواجهة كافة التحديات التي تقف أمامه لإيجاد حلول لها، أما الثاني في العضو النابض له، فعطف قلبه وتعامله مع الآخرين.

من الكلمات الشائعة في الافلام الأجنبية والعربية وحتى الأغاني بكل لغات «كلمة حب» أراها لم تأخذ حقها من الأهمية فظلت حبيسة الفهم الخاطئ الذي روج لها، فالبعض لعنها وشتمها بكل لغات العالم، والبعض ثمن وجودها وربط كيان الإنسان في الحياة بوجودها، مثلًا الكثير من الفلاسفة، خصوصًا الأغريق كتبوا عن الحب، واعتبروه أسطورة من الأساطير التي تعجز البشرية عن فهمه، وأنه شيء لا يمكن إدراكه بالعقل، أو شرحه بالمنطق، إلا أنه يكشف للإنسان حقيقته لتظهر الأنا المتخفية في الأعماق.

صحيح أن الفلسفة لا تجيبنا عن الكثير من الأسئلة التي نطرحها، فكلما بحثها عن أمر ما تُرجعنا خطوات للوراء وفي دائرة مفرغة، إلا أننا لا ننكر أنها تلفت انتباهنا لأفكار  نظل نتسائل حيلها من أين وكيف أتت؟ وفي هذا الطرح لا يفوتني أن أذكر كبار الفلاسفة الذين كانت لهم رؤى متضاربة حول الحب فمثلًا أفلاطون عرف الحب في كتابه «المحاورات» ووصفه من خلال قصة مفادها: كان البشر فيما مضي مخلوقات ذات أربع أذرع وأربع أرجل ووجهين، وذات يوم أغضبوا الآلهة، فشطر زيوس كل واحد منهم إلى اثنين.

ومنذ ذلك الوقت، فَقَدَ كل شخص نصفه أو نصفها الآخر، فمن خلال هذه الحادثة جعلت كل شخص يبحث عن نصفه للاكتمال. والكثير من الفلاسفة الذي أطلقوا العنان لأقلامهم وجالوا بتفكيرهم في اعتقادات لا أساس لها أصلًا في الوجود، فالفلسفة التي تؤمن بالوجدان والعاطفة صور لنا فيها بعض الفلاسفة أن الحب للمرأة ما هو إلا إشباع لرغبات غريزية حسية لا غير، وأنه هيكل ولد لهذا الأساس.

لكن إذا أردنا أن نبحث عن معنى الحب الحقيقي رجاءً لا تضيعوا وقتكم في قراءة الروايات والقصص التي ترهق العقل في ربط الحبطة بالحل وتضيع الوقت، لا تكونوا شخصيات مسرحية في الواقع تجيدون التمثيل لا التعبير النابع من القلب… قصص تبدأ بابتسامة وينتهي ببكاء، تبدأ بغزل وتنتهي بلعنة، فو الله لن تجدوا هذا الحب الذي صور لكم في العالم الوردي، الحب الحقيقي يبدأ بتقبل عيوب الآخر، ويستمر في الفرح والقرح.

لم يكن الحب في الإسلام يومًا حرامًا أو تعبيرًا عن شيء خطأ، بالعكس تمامًا خلق الإنسان من قطعة هشة فمهما تداعى بالقوة والصلابة إلى أن هناك شيئًا دائمًا يدفعه لليونة والضعف، لكن الجسر الذي يسلك فيه هذا الحب لتعبيره عنه  يظهرلنا إذا كان في استقامة صحيحة أم خاطئة. فمن أجمل قصص الحب الحقيقية التي يجب أن تقرأوا عنها كانت في قصص الأنبياء، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أحب خديجة حبًا لا مثيل له، بالرغم من أنها تكبره سنًا، فحتى بعد موتها ظل يحبها فقد أتت امرأة من الصحابة للنبي وقالت له: يا رسول الله ألا تتزوج؟ لديك سبعة عيال ودعوة هائلة تقوم بها، فيبكي النبي، وقال: وهل بعد خديجة أحد؟

يظهر حب نبينا محمد لزوجته خديجة أيضًا من يوم فتح مكة، والناس ملتفون حوله، وقريش كلها تأتي إليه ليسامحها، ويعفو عنها، فإذا به يرى سيدة عجوز قادمة من بعيد.. فيترك الجميع. ويقف معها ويكلمها ثم يخلع عباءته ويضعها على الأرض، ويجلس مع العجوز عليها.. فسألت السيدة عائشة: من هذه التي أعطاها النبي وقته وحديثه واهتمامه كله؟ فيقول: هذه صاحبة خديجة.. فتسأله: وفيم كنتم تتحدثون يا رسول الله؟ فقال: كنا نتحدث عن أيام خديجة. فغارت عائشة، وقالت: أما زلت تذكر هذه العجوز، وقد واراها التراب وأبدلك الله خيرًا منها.. فقال النبي: والله ما أبدلني من هي خيرًا منها.. فقد واستـني حين طردني الناس وصدقتني حين كذبني الناس فشعرت السيدة عائشة أن النبي غضب، فقالت له: استغفر لي يا رسول الله فقال: استغفري لخديجة حتى استغفر لكِ، أيوجد أعظم من هذا الحب، أي حب هذا ودافع عنها في غيابها، حب لم نسمع عنه فأفلام ولا القصص، فأغلبها التي تقتدي بإقتبسات كتبها روميو لجوليت، أو أحداث وقعت بين قيس وليلى، وفي الحقيقة لم تنته، بزواج حقيقي.

حب آخر لسيدنا أبراهيم لزوجته سارة فقد كان يحبها حبًا شديدًا حتى أنه عاش معها 80 عامًا وهي لا تنجب، لكنه من أجل حبه لا يريد أن يتزوج عليها أبدًا ولم يتزوج من السيدة هاجر (أم إسماعيل)، إلا حين طلبت منه سارة ذلك، وأصرت على أن يتزوج حتى ينجب.. هل يمكن للحب أن يصل لهذه الدرجة؟ 80 عامًا لا يريد أن يؤذي مشاعر زوجته، ثم بعد أن تزوج هاجر وأنجبت إسماعيل غارت سارة، وهذه هي طبيعة المرأة، فرغبت ألا تعيش مع هاجر في مكان واحد.. فوافق إبراهيم عليه السلام، وأخذ هاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلى مكان بعيد إرضاءً لزوجته الحبيبة امتثالًا أيضًا لكلام الله سبحانه. فلو جلنا كل قصص الروايات التي تحكي عن الحب لما وجدنا تسرد ما بحدث في الحقيقة.

فالحب شعور حقيقي وغريزة لا يمكن التهرب منها ولم يأت الإسلام محرمًا لهذا الشعور، هي كلمة عظيمة تحمل في معناها النقاء والنزاهة، فالإنسان مخلوق على الحب، لا يحاسب على ميل قلبه لشخص ما، وإنما عن تصرفاته التي تنجر بعد هذا الميل إن كان تصرفًا خاطئًا فيعاقب، أو صحيحًا فيجزى.

فنحن من المجتمعات التي لا تعبر عن الحب علنا لعدة اعتبارات كظاهرة لم يتعود عليها المجتمع من القدم، وإن كان الأمر يرجع أيضًا للإعلام والدراما التلفزونية التي أعطت صورة نمطية رسخت في ذهن المشاهد في قالب ينشر بأن كل ما يغيب عن العلن والمألوف أمر ناقص لا يجب الإفصاح عنه، لكنه يجوز عمله بطرق ملتوية تخالف الشرع.

كما اعتبروه قاصرًا على الرجل والمرأة، بل يشمل في الأساس حب الله، حب العائلة، حب الوطن. حب الصحبة الصادقة فمن المواقف الراقية التي حدثت في حب أبي بكر الصديق لرسول الله في ذات مرة مرض المصطفى الحبيب ورقد منطرح الفراش، مستلقيًا ببدن منهك، ذهب إليه أبو بكر – رضي الله عنه – ليزوره، فلما رآه منطرحًا في فراشه حزن عليه حزنًا شديدًا، حتى إنه عندما رجع إلى بيته وقع مريضًا حزنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما شفي النبي – صلى الله عليه وسلم – من مرضه وعلم بمرض الصديق ذهب لزيارته والاطمئنان عليه، وعندما دخل النبي على أبي بكر ورآه تهلل وجه الصديق، وانبسطت أساريره فرحًا بشفاء النبي – صلى الله عليه وسلم – فقام واقفًا وقد شفي لرؤيته، وقال شعرًا: مرض الحبيب فعدته.. فمرضت من أسفي عليه، شفي الحبيب فزارني.. فشفيت من نظري إليه، فكان يمرض لمرضه ويشفى لشفائه. فمحبته لرسول الله أثرت فيه على نفسه وماله، بل حتى أهله والكثير من المواقف شاهدة على ذلك.

فيشمل الحب المودة والرحمة الذي جعل الله تعالي بين الرجل والمرأة، فالبعض يتساءل أين يظهر الحب الحقيقي في الاستمرار من خلال الزواج، وماذا عن حب لم يفلح له عقد قران بسبب ظروف هل يسمى حبًا، فمن وجهة نظري الحب الحقيقي الكامل يجب أن يكون حلالًا طيبًا طاهرًا، عدا ذلك فهو ناقص، فينبغي أن نفعل ما أوصى به النبي – صلى الله عليه وسلم – (أنه لم ير للمتحابين مثل الزواج، أما عن ملامحه الحب لا يفضل أن تكون على شكل كلامات رنانة فقط بل تتجلى في أبسط الامور كأن تكتسب عادات من محبوبك، ولو قالوا لك عنها قبل أعوام لأقسمت لهم بعدم القيام بها. كأن ترجع لسوق للمرة الثانية من أجل شراء فاكهة لزوجتك فقط لأنها لا تحب النوع الذي اشتريته قبل ذلك. لا تشتكي للغير عن عادات زوجك السيئة وتتدمرين لهم عنه فالشكاية لله وحده.

فحتى يكون الحب مشروعًا عاقلًا وهادفًا على أصول الشرع، لابد أن يتوج بزواج حلال طيب، وإن لم تجد حبًا حقيقيًا مثل هذا فمت وأنت تحاول.